كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والرابع: أنه يدلُّ على تأكيد العزم بالالتزام.
الخامس: أنه عِوَضٌ من الألف في القراءة الأخرى، وقال شهاب الدين: ولا أدري ما معناه ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين، فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمَرَّةٍ واحدةٍ.
وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها، فقال: «التشديدُ للتكريرِ مرةً من بعد مرَّة، ولستُ آمَنُ أن تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفَّارةِ في اليمينِ الواحدة؛ لأنها لم تُكَرَّرْ».
وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدِّمة.
وأجَاب الواحِدِي بوجْهَيْن:
الأول: أنَّ بعضَهُم قال: عَقَدْتُم بالتَّخفيفِ وبالتَّشْديدِ واحدٌ في المعنى.
والثاني: هَبْ أنَّها تُفِيدُ التكرير، كَمَا في قوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} [يوسف: 23]، إلاَّ أنَّ هذا التكريرَ يحصل بأن يَعْقِدَهَا بقَلْبِهِ ولِسَانِه، ومتَى جَمَعَ بَيْنَ القَلْبِ واللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ، أمَّا لَوْ عُقِدَ اليَمِينُ بأحَدِهِمَا دُونَ الآخَر لَمْ يَكُن منعقدًا لَهَا فَسَلِمَتِ القِرَاءَةُ تِلاوَةً ولِلَّهِ الحَمْدُ.
وأمَّا «عَاقَدَتْ»، فيُحتملُ أن تكون بمعنى المجرَّد نحو: «جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ»، وقال الفارسيُّ: {عَاقَدتُمْ} يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون بمعنى «فَعَلَ»، كطَارَقْتُ النَّعْلَ، وعَاقَبْتُ اللِّصَّ.
والآخر: أن يُرَادَ به «فاعَلْتُ» التي تقتضي فاعلين؛ كأن المعنى: بما عَاقَدتُّمْ علَيْهِ الأيْمَانَ، عَدَّاه بـ «عَلَى» لمَّا كان بمعنى عَاهَدَ، قال: {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} [الفتح: 10]؛ نحو: {نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 58] بـ «إلَى»، وبابُها أن تقول: نَادَيْتُ زَيْدًا؛ نحو: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور} [مريم: 52] لمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال: {مِّمَّن دَعَا إِلَى الله} [فصلت: 33] ثم اتُّسِعَ فحُذِفَ الجارُّ، ونُقِلَ الفعلُ إلى المفعْول، ثم حُذِفَ من قوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، قال شهاب الدين: يريد- رحمه الله- أن يبيِّنَ معنى «المُفَاعَلَةِ»، فأتى بهذه النظائر للتضمين، ولحذفِ العائدِ على التدريج، والمعنى: بِمَا عَاقَدتُّمْ عليه الأيْمَانَ، وعاقَدَتْكُمُ الأيْمَانُ عليه، فنَسَبَ المعاقَدَةَ إلى الأيْمَانِ مجازًا، ولقائل أن يقول: قد لا نَحْتَاجُ إلى عائدٍ حتَّى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعل «ما» مصدريةً، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: بِمَا عَاقَدتُّمْ غيْرَكُمُ الأيْمَانَ، أيْ: بمُعَاقدتِكُمْ غيرَكُمُ الأيْمَانَ، ونخلُصُ من مجازٍ آخر، وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان؛ فإنَّ في هذا الوجه نسبة المعاقَدَةِ للغَيْرِ، وهي نسبةٌ حقيقية، وقد نَصَّ على هذا الوجه- جماعةٌ.
قالُوا: «ما» مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلةِ المصْدَرِ، ولكِن يُؤاخِذُكُم بِعَقْدِكُمْ، أوْ بِتَعْقِيدِكُمْ، أو بِمُعَاقَدَتِكُم الأيْمَان إذا خنتم، فحذف وقتًا لمؤاخَذَة؛ لأنَّه مَعْلُومٌ، أو يَنْكُثُ ما عَاقَدْتُمْ، فَحَذَفَ المُضَافَ.
وقد تعقَّبَ أبو حيان على أبي عليٍّ كلامَهُ؛ فقال: «قوله: إنَّه مثل «طارَقْتُ النَّعْلَ» و«عَاقَبْتُ اللِّصَّ»، ليس مثله؛ لأنَّك لا تقول: طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ، وتقول: عاقدتُّ اليمينَ، وعقدُّهَا»، وهذا غيرُ لازم لأبي عليٍّ؛ لأنّ مرادَه أنه مثلُه من حَيْثُ إنَّ «المُفَاعَلَةَ» بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه؛ كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يقالُ فيه أيضًا كذا، فلا يضُرُّه ذلك في التشبيه، وقال أيضًا: «تقديرُه حذف حَرْفِ الجرِّ، ثم الضمير على التدرُّج- بعيدٌ، وليس بنظيرِ: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]؛ لأن «أمَرَ» بتعدَّى بنفسِه تارةً، وبحرف الجرِّ أخرى، وإن كان الأصلُ الحَرْفَ، وأيضًا فـ«ما» في {فَاصْدَعْ بِمَا} لا يتعيَّن أن تكون بمعنى «الَّذي» بل الظاهر أنها مصدريَّةٌ، وكذلك هاهنا الأحسنُ: أن تكون مصدريةً لمقابلتها بالمصْدرِ، وهو اللَّغْوُ».
قال الوَاحِدِي: يُقَالُ: عَقَدَ فلانٌ اليمينَ والعهدَ والحبلَ عَقْدًا، إذَا وكَّده وأحْكَمَهُ، ومثل ذلك أيضًا «عَقَّدَ» بالتَّشْديد إذا وكَّدَ، ومثله: عَاقَد بالألفِ.
وقد تقدم الكلامُ في سورة النِّساء عند قوله تعالى: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الآية: 33] و{عاقَدت}، وذُكِرَ في هذه ثلاثُ قراءاتٍ في المشْهُور، وفي تِيكَ قراءتانِ، وقد تقدم في النساء أنه رُوِيَ عن حمزة: {عَقَّدَتْ} بالتشديد فيكون فيها أيضًا ثلاثُ قراءاتٍ، وهو اتفاقٌ غريبٌ، فإنَّ حمزة من أصحابِ التخفيفِ في هذه السورة، وقد رُوِيَ عنه التثقيلُ في النساء.
والمرادُ بقوله: «عقَّدتم، وعاقَدْتُم» أي: قَصَدْتُم وتَعمَّدْتُم، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سُورةِ البَقَرةِ.
قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} مبتدأ وخبر، والضميرُ في {فَكَفَّارتُهُ} فيه أربعةُ أوجه:
أحدها: أنه يعودُ على الحِنْثِ الدَّالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، أي: فكفَّارةُ الحِنْثِ.
الثاني: أنه يعود على «ما» إنْ جَعَلْنَاهَا موصولةً اسميَّةً، وهو على حذف مضافٍ، أي: فكفارة نُكْثِهِ، كذا قدَّره الزمخشريُّ.
والثالث: أنه يعودُ على العَقْدِ؛ لتقدُّمِ الفعْلِ الدالِّ عليه.
الرابع: أنه يعود على اليمين، وإن كانت مؤنثة؛ لأنها بمعنى الحَلْفِ، قالهما أبو البقاء، وليسا بظاهَرْين.
و{إطْعَامُ} مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل، أي: فكفَّارته أن يُطْعِمَ الحَانِثُ عشرة، وفاعلُ المصدرِ يُحْذَفُ كثيرًا، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، أي: أن يُطْعَمَ عشرةٌ؛ لأنَّ في ذلك خلافًا تقدَّم التنبيه عليه؛ فعلى الأول: يكونُ محلُّ {عشرة} نصبًا؛ وعلى الثاني: يكون محلُّها رفعًا على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع، فإذا قلت: «يُعْجِبُنِي أكْلُ الخُبْزِ» فإن قدَّرته مبنيًا للفاعل، فتتبع «الخُبْز» بالجرِّ على اللفظ، والنَّصْبِ على المحلِّ، وإنْ قَدَّرْتَه مبنيًّا للمفعول، أتْبَعْتَهُ جرًّا ورفعًا، فتقول: «يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ والسَّمْنِ والسَّمْنَ والسَّمْنُ»، وفي الحديث: «نَهَى عن قَتْلِ الأبْتَرِ وذُو الطُّفَيَتَيْنِ» برفع «ذُو» على معنى: أنْ يُقْتَلَ الأبْتَرُ، قال أبو البقاء: «والجَيِّدُ أن يُقَدَّرَ- أي المصدرُ- بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه؛ لأنَّ ما قبله وما بعده خطاب»، يعني: فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك؛ لأنَّ المعنى: فكفَّارَتُهُ أنْ تُطْعِمُوا أنْتُمْ أيها الحَالِفُونَ، وقد تقدم أنَّ تقديره بالمبنيِّ للفاعلِ هو الراجحُ، ولو لم تُوجَدُ قرينةٌ؛ لأنه الأصلُ.
قوله تعالى: {مِنْ أوسطِ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ رفعِ خبرًا لمبتدأ محذوفٍ يبيِّنه ما قبله، تقديرُه: طعامُهُمْ مِنْ أوسطِ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عِنْدَ قوله: {مَسَاكِينَ}، وسيأتي له مزيد بيان قريبًا إن شاء الله تعالى.
والثاني: أنه في موضعِ نصْبٍ؛ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني، والتقديرُ: قوتًا أو طعامًا كائنًا من أوسطِ، وأما المفعولُ الأوَّل فهو {عَشَرَة} المضافُ إليه المصدرُ، و«ما» موصولةٌ اسميَّةٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: من أوْسَطِ الذي تطعمُونَهُ، وقَدَّره أبو البقاء مجرورًا بـ «مِنْ»، فقال: «الَّذِي تُطْعَمُونَ مِنْهُ»، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط العائد المجرورِ في الحذف: أنْ يتَّحِدَ الحرفانِ والمتعلَّقانِ، والحرفان هنا، وإن اتفقا وهما «مِنْ» و«مِنْ» إلا أنَّ العامل اختلف؛ فإنَّ «من» الثانيةَ متعلِّقةٌ بـ {تُطْعِمُون}، والأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ، وهو الكون المطلقُ؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف، وقد يقالُ: إنَّ الفعلَ لَمَّا كان مُنْصَبًا على قوله: {مِنْ أوْسَطِ}، فكأنه عاملٌ فيه، وإنما قدَّرْنَا مفعولًا لضرورة الصِّناعة، فإن قيل: الموصولُ لم ينجرَّ بـ «مِنْ» إنما انجرَّ بالإضافةِ، فالجوابُ: أنَّ المضافَ إلى الموصول كالموصولِ في ذلك؛ نحو: «مُرَّ بِغُلامٍ الَّذي مَرَرْتُ».
و{أهلِيكُمْ} مفعولٌ أول لـ {تُطْعِمُونَ}، والثاني محذوفٌ؛ كما تقدم، أي: تُطْعِمُونَهُ أهْلِيكُمْ، و{أهْلِيكُمْ} جمعُ سلامةٍ، ونَقَصَهُ من الشروط كونُه ليس عَلَمًا ولا صفةً، والذي حسَّن ذلك: أنه كثيرًا ما يُستعملُ استعمال «مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا» في قولهم: «هُوَ أهْلٌ لِكَذَا»، أي: مُسْتَحِقٌّ له، فأشبه الصفاتِ، فجُمِعَ جمعَها، وقال تعالى: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، وفي الحديث: «إنَّ لله أهلينَ» قيل: يا رسُول الله: مَنْ هُمْ؟ قال: «قُرَّاء القرآن هم أهلُو الله وخاصَّتُه»، فقوله: «أهلُو الله» جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإضافة، ويُحتمل أن يكون مفردًا، فيكتب: «أهْلُ الله»، فهو في اللفظِ واحدٌ.
وقرأ جَعْفَرٌ الصَّادقُ: {أهَالِيْكُمْ} بسكونِ الياء، وفيه تخريجانِ:
أحدهما: أنَّ «أهَالِي» جمعُ تكسيرٍ لـ «أهْلَة»، فهو شاذٌّ في القياس؛ كـ «لَيْلَةٍ وليالٍ»، قال ابنُ جِني: «أهَالٍ» بمنزلةِ «لَيَالٍ» واحدها أهلاَة ولَيْلاَة، والعربُ تقول: أهْلٌ وأهْلَة؛ قال الشاعر: [الطويل]
وَأهْلَةِ وُدٍّ سُرِرْتُ بِوُدِّهِمْ

وقياسُ قولِ أبي زيدٍ: أن تجعله جمعًا لواحدٍ مقدَّرٍ؛ نحو: أحَادِيث وأعَارِيض، وإليه يشير قولُ ابن جنِّي: «أهالٍ بمنزلة ليالٍ واحدُها أهلاة وليْلاَة»، فهذا يحتمل أن يكونَ بطريق السماعِ، ويحتملُ أن يكون بطريقِ القياس؛ كما يقول أبو زيد.
والثاني: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ لـ «أهْلٍ» قال الزمخشريُّ: «كَالليالي في جمع لَيْلَة والأرَاضِي في جمع أرْضٍ».
قوله: «في جَمْعِ لَيْلَةٍ، وجمعِ أرضٍ» أرادَ بالجمعِ اللغويَّ؛ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى، ولا يريد أنه جمعُ «لَيْلَة» و«أرْض» صناعةً؛ لانه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ، فكيف يجعلُه جمعًا اصطلاحًا؟.
وكان قياسُ قراءةِ جعفرٍ تحريكَ الياءِ بالفتحة؛ لخفَّتها، ولكنه شَبَّه الياء بالألف، فقدَّر فيها الحركةَ، وهو كثيرٌ في النظْمِ؛ كقول النابغة: [البسيط]
رَدَّتْ عَلَيْهِ أقَاصِيهِ وَلَبَّدَهُ ** ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ في الثَّأدِ

وقول الآخر: [الرجز]
كَأنَّ أيْديهِنَّ بِالْقَاعِ القَرِقْ ** أيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ

وقد مضى ذلك.
قوله تعالى: {أوْ كِسْوَتُهُمْ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه نَسَقٌ على {إطْعَام}، أي: فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسْوَة تلك العشرة.
والثاني: أنه عطفٌ على محلِّ {مِنْ أوْسَط} وهو أن يكون {مِنْ أوسط} خبرًا لمبتدأ محذوفٍ يدُلُّ عليه ما قبله، تقديرُه: طعامُهُمْ مِنْ أوْسَط، فالكلامُ عنده تامٌّ على قوله: {عَشرةِ مساكِينَ}، ثم ابتدأ إخبارًا آخر بأن الطعام يكونُ من أوسط كذا وأمَّا إذا قلنا: إنَّ {مِنْ أوْسَطِ} هو المفعولُ الثاني، فيستحيل عطف {كِسْوَتُهُمْ} عليه؛ لتخالفهما إعرابًا.
وقرأ الجمهور: {كِسْوتُهُمْ} بكسر الكاف.
وقرأ إبراهيمُ النخعيُّ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ وسعيدُ بنُ المُسَيِّب بضمِّها، وقد تقدَّم في البقرة [الآية 233] أنهما لغتان في المصدر، وفي الشيء المَكْسُوِّ، قال الزمخشريُّ: «كالقِدْوَة في القُدْوَة، والإسْوَة في الأسْوَة» إلا أن الذي قرأ في البقرة بضَمِّها هو طلحة فلم يذكُرُوه هنا، ولا ذكَرُوا هؤلاء هناك.
وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر وابنُ السَّميفع: {أوْ كأسْوتِهِمْ} بكاف الجر الداخلة على «أُسْوَة» قال الزمخشريُّ: «بمعنى: أو مِثْلُ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ، إسْرَافًا أو تَقْتيرًا، لا تُنْقصونَهُمْ عن مقْدارِ نفقتِهِمْ، ولكنْ تواسُونَ بينهم، فإنْ قُلْتَ: ما محلُّ الكافِ؟ قلتُ: الرفعُ، تقديرُه: أو طعَامُهُمْ كأسوتِهِمْ، بمعنى: كَمِثْلِ طعامهم، إن لَمْ يُطْعِمُوهُم الأوْسَطَ». انتهى، وكان قد تقدم أنه يجعل {مِنْ أوسَطِ} مرفوع المحلِّ خبرًا لمبتدأ محذوف، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً؛ عطفًا على {مِنْ أوْسَطِ}، وقال أبو البقاء قريبًا من هذا؛ فإنه قال: «فالكاف في موضعِ رفعٍ أي: أو مِثْلُ أسْوَةِ أهْلِيكُمْ»، وقال أبو حيان: «إنه في موضع نصْبٍ عطفًا على محلِّ: مِنْ أوْسطَ»؛ لأنه عنده مفعولٌ ثان، إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسْوةَ من الكَفَّارةِ، وقد أجمعَ الناسُ على أنها إحدى الخصَالِ الثلاثِ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول: «اسْتُفيدتِ الكسْوةُ من السُّنَّةِ»، أمَّا لو قام الإجماعُ على أن مستندَ الكسْوَة في الكفَّارة من الآية؛ فإنه يَصِحُّ الردُّ على هذا القارئ.
والكِسْوَةُ في اللُّغَةِ معناهُ اللِّبَاسُ، وهو كُلُّ ما يُكْتَسَى بِه.
قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عطف على {إطعامُ} وهو مصدر مضاف لمفعوله، والكلامُ عليه كالكلام على {إطعامُ عشرَةِ} من جوازِ تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك، وقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} كقوله في النساء: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92]، وقد تقدَّم ذلك.
فصل:
المُرَادُ بالرَّقَبَةِ الجملة.